الأنبا إرميا يكتب : «الملك العادل»
الأنبا إرميا يكتب : «الملك العادل»
حدثتنا المقالة السابقة عما شهِدته البلاد من غلاء ووباء وجلاء، وتردى الأحوال، وتوقف الصناعات والإنتاج البشرى،
حتى أتت سنة 599هـ (1202م) التى رحم الله فيها البشر وعادت الحياة إلى سابق عهدها.
ثم بدأ الحديث عن حكم «الملك العادل» (596-614هـ) (1200-1218م) على «مِصر»-
بعد أن صار سلطان «مِصر» والشام – فتوحدت البلاد على يده بعد وفاة أخيه السلطان «صلاح الدين الأيوبى».
ويذكر «أبومظفر شمس الدين يوسف بن قَزْأُوغْلِي» عن فعل «الملك العادل» وقت وقوع الغلاء بـ«مِصر»:
«ولقد فعل (العادل) فى غلاء (مِصر) عَقيب (بعد) موت (العزيز) ما لم يفعله غيره،
كان يخرج فى الليل بنفسه ويفرِّق الأموال فى ذوى البيوتات والمساكين، وكفّن فى تلك الأيام من ماله ثلاثمائة ألف من الغرباء…».
إلا أن سياسة «الملك العادل» مع الفرنج – على النقيض من موقف أخيه «صلاح الدين» –
كانت تميل إلى المسالمة، فكان يعقد الهدنات الواحدة تلو الأخرى حتى انتهت الأخيرة وتحركت قوات الفرنج نحو «عكا»، فكان عند وصول أُوَلها أن خرج «الملك العادل» بجنوده إليها فى «بَيْسان» (مدينة بالأردن بالغَور الشامىّ)، فلاقاه الفرنج لمقاتلته فاتجه هو نحو «دمشق».
فى ذلك يذكر «ابن تَغْرى» عن «الموفق»: «وخرجوا (أى الفرنج) إلى (عكا) وتجمعوا على الغَور
(غَور الأردن بالشام وهو منخفض بين (بيت المقدس) و(دمشق)»، فنزل «العادل» قُبالتهم على «بَيْسان»… وكان قد آوى إليه خلق من البلاد يعتصمون به، فركب مُجِدًّا – وماج الفرنج (اضطربت أمورهم) (وهُمْ) فى أثره حتى وصل «دمشق» على شفًا (على الحدود) – وهَمَّ ليدخل إليها، فمنعه «المعتمد» وشجعه.
وقال له: المصلحة أن تقيم بظاهر «دمشق». ثم تحركت حملة الفرنج من «عكا» إلى «دمياط»
حيث استطاعت الاستيلاء على «برج دمياط» (الذى يُطلق عليه أيضًا «برج السلسلة»)،
وكان قفل الديار المِصرية، ويُعد برجًا منيعًا لسلاسله الحديد الممتدة بالنيل لتمنع المراكب التى بالبحر من دخول «دمياط». وحين وصل الخبر إلى «الملك العادل» حزن حزنًا شديدًا حتى إنه وقع مريضًا وتُوُفِّى! فيذكر ابن تَغْرِىّ: أخذ الفرنج «برج السِّلسلة» من «الكامل».
فأرسل «الكامل» شيخ الشيوخ «صدر الدين» إلى أبيه «العادل» وأخبره، فدَق «العادل» بيده على صدره، ومرِض مِن قهْره مرَض الموت. لكن خبر موته لم يعلم به أحد من الشعب لئلا يؤثر فى روح الجنود المعنوية
وهم فى خضم حربهم لتحرير دمياط، ويذكر أبوالمظفر: ولما تُوفى «العادل»، لم يعلم بموته غير «كريم الدين الخِلاطىّ».
فأرسل الطير إلى «نابُلُس»، إلى «المعظَّم» («عيسى بن العادل»). فجاء («المعظَّم») يومَ السبت إلى (قرية) «عالِقِين» (بظاهر دمشق)، فاحتاط على الخزائن، وصبَّر «العادل» وجعله فى «مِحَفَّة» (هَودَج لا قبة له).. ودخلوا به إلى القلعة وكتموا موته.
وقد كان موت الملك العادل سنة 615هـ (1218م)، ونُقل إلى دمشق حيث دُفن أولاً بـ«قلعة دمشق»،
ثم نقل إلى مدرسته المعروفة باسمه سنة 619هـ (1222م) ودُفن بقبره بها، وكان الملك العادل قد بدأ بإنشائها سنة 612هـ (1215م) وأتمها من بعده ابنه المعظَّم عيسى. وقد حكم الملك العادل البلاد قرابة تسعة عشر عامًا.
وقد شهدت مِصر غلاءً شديدًا فى السنة الأولى من حكم العادل، وحدثت زلزلة عظيمة فى صعيدها هدّمت مبانى كثيرة، ومات بشر كثيرون. وقد امتدت الزلزلة إلى الشام والساحل فهدّمت مدينة نابُلُس، وأودت بحياة ثلاثين ألف نفس. وفى الثالثة عشرة (609هـ/ 1213م) من حكم الملك العادل.
اجتمع هو وأبناؤه الكامل والفائز والمعظم لقتال الفرنج الذين غزوا دمياط، وتُوُفِّى ابنه الملك الأوحد فى السنة نفسها. ومن إنجازات الملك العادل إعادة بنائه القلعة الأيوبية، قلعة دمشق، الحالية. و… والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!…
الأنبا إرميا
الأسقف العام
رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى